فن

«اللعب مع العيال»: استنساخ رديء لجماليات قديمة

بين الهاجس والتكرار، تأكيد الجمال أو استنساخه

future بوستر فيلم «اللعب مع العيال»

مفيش موضوع جديد، الجديد هو المعالجة ورؤيتك لها.

شريف عرفة

يكمن الفارق بين التكرار والهاجس في أن الأول هو استنساخ حرفي لعناصر نجاح تجربة سابقة دون إغفال عنصر واحد، استنساخ ينتج عنه غالبًا في النهاية منتج مكرر، ما هو إلا انعكاس أقل بريقًا لنموذج أصلي.

بينما الهاجس هو الفكرة الكامنة بإصرار خلف إنتاجات مخرج بعينه، يمكن للهاجس أن يخلق ألف فيلم، يتنوع أبطالها وتمتلك كل حكاية فيها أصالتها المنفردة، لكن تظل الأفلام وفية لفكرة بعينها. تدور في رحابها كل القصص.

التكرار إخفاق فني بينما الهاجس تأكيد جمالي من وجهة نظر المخرج على أن مفتاح نجاة البشر في سياقات وقصص شتى هو فكرة بعينها.

تحضر مسيرة شريف عرفة الإخراجية كمثال ممتاز على فكرة الهاجس، يمكن تقسيم مسيرة عرفة بسهولة إلى فصول منفصلة، مثل تجربته أواخر الثمانينيات مع السيناريست ماهر عواد، والتي أنتجت أفلامًا مثل «الأقزام قادمون» و«الدرجة الثالثة»، وصولًا إلى «يا مهلبية يا». تليها الخماسية السينمائية التي تسيَّدت التسعينيات بالتعاون مع وحيد حامد وعادل إمام بأفلام مثل «اللعب مع الكبار» و«الإرهاب والكباب» و«المنسي»، وصولًا لثلاثية بدايات الألفية مع السيناريست أحمد عبد الله والراحل علاء ولي الدين بأفلام «الناظر» و«عبود على الحدود» و«ابن عز».

تتنوع تلك الفصول بتنوع أبطالها وقصصها، لكن تحضر السلطة ومقاومتها فيها كهاجس جمالي لا يبلى، يقول شريف عرفة: «إن الموضوعات لا تتجدد، ما يتغير فقط هو الزاوية التي يطل منها على موضوعه».

يصرخ حسن بهلول في نهاية «اللعب مع الكبار» (من إنتاج 1991) بأنه سيواصل الحلم رغم طلقات الرصاص. بينما يصر حمص وحلاوة في فيلم «سمع هس» (من إنتاج العام نفسه) على التمسك بالأمل حتى بعد سرقة لحنهما الأصيل وإعادة تدويره في أغنية وطنية رديئة، يواصلان الغناء رهانًا على القرن القادم الذي سينصف أحلامهما:

هتشوفوا طريقنا مودي لفين … على ما تهل سنة 2000 … هانكون فوق فوق فوق فوق … أطول واحد فيكوا هايجي تحت كتافنا كده بشبرين.

مشهد من فيلم «سمع هس»

عندما يأتي العام 2000 سيكون شريف عرفة قد أنهى فصول تجربته مع ماهر عواد ووحيد حامد، واتخذ علاء ولي الدين بطلًا شبابيًّا، أكثر خفة وأقل حدة، لكن تظل السلطة هاجسه، وإن كانت أبوية وليست سياسية.

يبدأ «الناظر» بفانتازيا تاريخية تتابعية تحمل بقايا من تجربة عرفة مع ماهر عواد لتجليات عاشور المعلم عبر العصور المختلفة، وينتهي الفيلم بانتصار صلاح عاشور العصري النبيل - رغم سذاجته - على بيروقراطية تعيين المديرين في وزارة التعليم بنجاحه في إصلاح مدرسته واستعادتها من سلطة الآباء المتصلبة، رغم أنه لم يكمل تعليمه بعد، مثلما انتصر بطل «الإرهاب والكباب» المهمش الذي لم يراهن عليه أحد على بيروقراطية مجمع التحرير وروتين الورق.

يقول عرفة إن بطله واحد وراء كل تلك الأفلام، يحارب السلطة بالحلم، سواء كانت سياسية أو بيروقراطية أو أبوية، الفرق فقط يكمن في مدى استعداد الجمهور في فترة بعينها لتقبل فيلم بعينه.

مشهد من فيلم «الإرهاب والكباب»

مشهد من فيلم «الناظر»

كان الجمهور أكثر استعدادًا للفانتازيا بنهاية الثمانينيات، عهد التقاط الأنفاس بين الأخطاء الناصرية والساداتية، واستشراف حقبة جديدة ستمثل امتدادًا فاترًا وطويلًا لما سبقها، بينما كان عادل إمام بالتسعينيات التي بدأت فيها خصخصة الأحلام يمثل بطل الهامش الذي يقاوم بينما يدفعه المتن ببطء للانسحاق في هامشه، وكانت الألفية وسينما الشباب بحاجة إلى بطل يهزم سلطة الأب أولًا، مثلما هزم النجوم الشباب في شباك التذاكر بأفلام مثل «إسماعيلية رايح جاي (1997)» تجربة النجوم الكبار التي هيمنت على السينما لوقت طويل.

في عام 2024، بعد مرور ربع القرن الذي راهن عليه أبطال أفلام سابقة لشريف عرفة بأنه القرن الذي سينصف أحلامهم، يقدم المخرج فيلمه الأخير «اللعب مع العيال» بعد تجارب كتابة وإخراج بدت أقل بريقًا من تاريخه السابق في أعمال مثل «الإنس والنمس» و«الجريمة» و«الممر».

يؤكد عرفة أن تجربة الفيلم دافعها التجديد الجمالي؛ مما يدفعنا للتساؤل:هل نجح الفيلم في تقديم تنويع جمالي عن هاجس شريف عرفة الذي يصر عليه دومًا؟ أم إخفاق جمالي بانسحاب الهاجس لصالح تكرار واستنساخ أكثر رداءة لنجاحات سابقة؟

موزاييك جديد للوحات قديمة

يحمل فيلم «اللعب مع العيال» روابط واضحة بأفلام شريف عرفة السابقة، بداية من العنوان الذي يبدو كتلاعب لفظي عن فيلمه السابق «اللعب مع الكبار».

يستعير الفيلم الكثير من قصته كذلك من ثلاثية علاء ولي الدين مع عرفة وتحديدًا فيلم «الناظر»، فالبطل علام مثل صلاح عاشور، شاب ضعيف الشخصية، يختفي صوته في حضرة أبيه، يرث مهنة التدريس عنه، ويبدو امتدادًا تاريخيًّا لأسرة النخعاوي، مثلما كان صلاح امتدادًا لأسرة عاشور.

علاء ولي الدين في مشهد من فيلم «الناظر»

مشهد من فيلم «اللعب مع العيال»

يفر علام من هيمنة أبيه وأسرته التي ورطته في زيجة إجبارية، ليعمل معلمًا منتدبًا في شرم الشيخ، ليجد نفسه متورطًا في بيئة صحراوية قاسية تختبر صلابته مثل «عبود على الحدود»، بينما عليه أن يعلم أطفالًا ومراهقين القراءة والكتابة بأسرع وقت لينجو بحياته.

يحكي علام ماضيه هذا كاملًا في تتابع سينمائي سريع يشبه بداية فيلم «الناظر»؛ ليضعنا مباشرة في قلب الحكاية.

تؤطر الموسيقى تلك الروابط الحاضرة مع أفلام عرفة السابقة، فنستمع لنغمات مودي الإمام الرشيقة الذي صاحب شريف عرفة في كثير من أفلامه، نغمات يكاد يبدو معها البطل محمد إمام بنوستالجيا، نسخة شابة لا أكثر من أدوار أبيه في التسعينيات.

يحمل «اللعب مع العيال» جينات أفلام عرفة السابقة بشكل أكثر وضوحًا من الهاجس الخفي، شكل يقترب من التكرار الكامل، ولذلك يصعب أن ينجو من فخ المقارنة، مقارنة لم نختَرها نحن، إنما فرضها المخرج ومؤلف العمل نفسه، باستدعاء فسيفساء أو موزاييك من أعمال ناجحة ليعيد بها تقديم أفكاره في قرن جديد.

فيلم بتاريخ 2010

يموضع شريف عرفة فيلمه بأكمله في عام 2010 بتأكيد عاجل يسبق حتى التتر والأسماء، يدور الفيلم قبل عام من ثورة يناير، الفاصل التاريخي الأكثر وضوحًا بين حقبة مبارك التي استمرت ثلاثة عقود، وقدم فيها عرفة توثيقه الفني والسياسي الأبرز، وبين زمننا الحالي الذي يعد تتابعًا ربما لم يكتمل بعد ويستقر عن تلك الثورة.

لا يمتلك الفيلم أو الحبكة مبررًا فنيًّا لسكنى تلك الحقبة، ولا يحمل الفيلم بعدًا سياسيًّا يحاول مراوغته بالانتماء لزمن سابق مثلما فعلت أفلام كثيرة سابقًا.

يمنح هذا التأطير الزمني للفيلم مزيدًا من الاغتراب عن لحظتنا الراهنة، ومزيدًا من الاقتراب للوراء نحو حقبة فيلم «الناظر» التي يستعير منها المخرج هيكل فيلمه.

في فيلم «اللعب مع الكبار» يمتلك حسن بهلول هوسًا بالتاريخ، يحضر عروض الصوت والضوء في الأهرامات، في إشارة ذكية لعظمة زمن ماضٍ لم يعد موجودًا، مقارنة بلحظة راهنة في التسعينيات لا ينشغل فيها الحكام ببناء قبور مثلثة عملاقة كالأهرامات، إنما بتفكيك كل شيء وبيعه، لذلك لا تنجو الأهرامات من البيع لعظمتها إنما لكونها حجارة ثقيلة يصعب تفكيكها.

في «اللعب مع العيال» لا يمتلك البطل علام المعلم المهووس بالتاريخ كذلك رغبة في اللعب مع الكبار مثل حسن بهلول، ولا يمتلك شغفًا مثله لتمثيل صورة العراف الأفَّاق في مكتب أمن الدولة، إنما يحب التاريخ ببراءة لا تتورط في ربط الماضي بالحاضر، ويعشق التمثيل بسذاجة كهواية آمنة لا يحاول فيها حتى الهروب من ضعف شخصيته بتمثل شخصيات أقوى.

ربما يحضر تاريخ 2010 من بداية الفيلم لتحريره من حرج أن يعكس، ولو بإشارة خفية، حضور السلطة الحالية أو بالأحرى عدم حضورها في فيلم هزلي قوامه جرائم متتالية.

يتعرض البطل في فيلم «اللعب مع العيال» لجرائم تبدأ بإساءة أبيه الذي يطرد السكان ويؤسس مركز دروس خصوصية عملاقًا في عمارة سكنية، ثم يتعرض للاختطاف والتعذيب على يد قريبته التي تريد الزواج منه، ثم الانتداب لمدرسة قاحلة في وسط قبائلي بدائي بجنوب سيناء دون خطاب وزاري أو متابعة لتعيينه، وسط قبائلي تحيطه عصابات الاتجار بالمخدرات وقبائل مسلحة، تجاور متوتر ستنتهي معه الحبكة لمعركة رصاص هزلية بين قبائل وعصابات تحمل أسلحة آلية غير مرخصة.

محمد إمام يتوسط بيومي فؤاد وباسم سمرة، في مشهد من فيلم «اللعب مع العيال»

على الرغم من هذا التتابع فإن كل الجرائم السابقة لا تنتهي بأي حضور للسلطة ولو في صورة ضابط أو عسكري واحد، السلطة غير موجودة والبطل متروك بالكامل لتداعيات الحبكة، وهو ما يصعب تقبله في أفلام حالية تؤكد فيها السلطة حضورها في أقل التفاصيل. بل تصطنع أفلامًا كاملة لتأكيد هذا الحضور.

بطل وحيد بدون أدوار مساعدة

خلال تصوير فيلم «الناظر» اقترح شريف عرفة ضرورة وجود شخصية مساعدة، تمثل سفير العالم السفلي الذي يصقل خبرات صلاح البطل في التعامل مع المتنمرين ويكسبه خشونة كوميدية في التعامل مع الواقع.

أثمر هذا الاقتراح شخصية اللمبي التي بدأت بثلاثة مشاهد لا أكثر على طاولة القراءة، وانتهت بميلاد أيقونة ستمتلك مسيرتها المنفصلة وعلامتها السينمائية فيما بعد.

محمد سعد يتوسط أحمد حلمي وعلاء ولي الدين، في مشهد من فيلم «الناظر»

يسرد شريف عرفة حكايات مشابهة عن استعانته بالممثل حسن حسني في مشاهد محدودة في «عبود على الحدود»، وكان يمتلك وقتها تاريخًا تلفزيونيًا ثريًا يوازيه حضور باهت في السينما، ولكن نجحت موهبة حسن حسني في تحويل مشاهده المحدودة إلى دور رئيسي، وضمنت مشاركته في فيلم الناظر الذي دشن انطلاق مسيرة سينمائية متأخرة جعلت العجوز حسن حسني أحد ملامح سينما الشباب حتى وفاته.

تؤكد تلك الحكايات اهتمام شريف عرفة المفرط بالأدوار المساعدة خاصة في الأفلام الكوميدية، التي يحتاج فيها البطل إلى من يمهد له الإفيه ومن يستقبله كذلك، لذلك يسهل أن ينال الممثل المساعد النجومية من أفلام شريف عرفة عبر أدوار محدودة، مثل الجد جابر الشرقاوي، أو حتى شخصية مشهد واحد مثل أبو موتة في «فول الصين العظيم».

يتخلص شريف عرفة في «اللعب مع العيال» بغرابة من تلك الحاسة الذكية، بتقديم ممثلين شباب واعدين مثل مصطفى غريب ومحمود السيسي في أدوار مساعدة تحضر في مشاهد صغيرة غير مسلحة بشيء سوى نكات مكررة، يعتمد عرفة كذلك على شخصيات مقولبة في فكاهتها المبتذلة التي تعتمد على الشكل الخارجي والبدانة مثل ويزو.

مصطفى غريب في مشهد من فيلم «اللعب مع العيال»

وبينما نجح حجاج عبد العظيم بخبرته السينمائية في تقديم أداء واعد لشخصية الأب المتسلط، يفقد الخط الدرامي الخاص بأسرة البطل المتسلطة ومطاردتها له قيمته بالتدريج، ويحتار شريف عرفة، مثل مخرج مبتدئ، في التخلص منه ببساطة أو إعادة توظيفه، فينتج عنه مشاهد متقطعة كل عشر دقائق تفسد إيقاع حكاية البطل في الصحراء ولا تقدم فاصلًا منعشًا خارجها.

حجاج عبد العظيم في مشهد من فيلم «اللعب مع العيال»

يبحر البطل علام في «اللعب مع العيال» وحيدًا دون سند من أدوار مساعدة تحمل الحكاية معه، لذلك تبدو مهمته ثقيلة، خاصة أن محمد إمام لا يمتلك الجسد المناسب للدور.

تمثل بدانة علاء ولي الدين، التي تتناقض في ضخامتها مع وجهه الطفولي، انعكاسًا جسديًا لعقدة صلاح، الذي يمتلك إمكانات ضخمة لكنه عالق في طفولة لم تنضج بعد، بينما جسم عادل إمام وتكوينه البسيط القصير يعكس عقدة حسن بهلول الذي يراوغ محدوديته بأن يبدو أضعاف حجمه وهو يرقص باستهتار فوق سيارة خطيب حبيبته الثري.

علاء ولي الدين من فيلم «الناظر»

عادل إمام من فيلم «اللعب مع الكبار»

يمتلك علام جسدًا مثاليًّا بعضلات واضحة ووسامة بارزة، لا تناسب تربيته المنغلقة في بيت لا يخرج منه إلا مراوغةً ليشاهد السينما، جسدًا لا يستخدمه رغم ذلك أمام كل الأخطار التي واجهها، ولا يجيد به حتى العوم في الماء إلا بصعوبة.

قد تبدو الحالة الباهتة التي ظهرت عليها أدوار الكبار، ومسارات الحبكة التي تبتر دون سبب وتستعاد دون سبب، اختيارًا إبداعيًّا مقصودًا لفيلم يحمل عنوانه كلمة «العيال»، وربما يفسح المجال لهم لتسيد الحبكة، ولكن هل كان «العيال» حقًّا أبطال الحبكة؟

أن تبحث عن العيال فلا تجدهم

تلعب الوراثة دورًا لافتًا في سينما شريف عرفة، فبطله محيي الشرقاوي في «فول الصين العظيم» يرث تاريخ عائلته الإجرامي، وبطله صلاح يرث تاريخ عائلته التعليمي، بينما منصور الحفني في الجزيرة يرث مسئولية عائلته وإرثها الدموي رغم أنه الأكثر تعلمًا والأكثر قدرة على التحرر منه.

مشهد من فيلم «فول الصين العظيم»

لذلك تبدو الطفولة دومًا هي المرحلة التي يتم فيها وضع القيد الذي ستعاني منه الشخوص للأبد، لذلك يركز شريف عرفة على التعليم في فيلم «الناظر» وفيلم «اللعب مع العيال» باعتباره حبل النجاة الوحيد لتنجو شخوصه من فخ الوراثة.

في مشهد من «اللعب مع العيال» يتطابق مع فيلم «الناظر»، يدخل البطل إلى حجرة مهجورة، يلتقط كتابًا، يزيح عنه التراب، ويتعلم حكمة مدرسية تساعده في التعامل مع مأزقه.

لذلك ينجح صلاح عاشور في التواصل أكثر من غيره مع أطفال ومراهقي مدرسته؛ لأنه عاش طويلًا في مأزقه الطفولي قبل النضج، يدرك الضعف الكامن وراء مراهق متنمر ينتصر عليه ثم يساعده، وبينما حاول صلاح في نصف الفيلم الأول وصال امرأة بخبرة طفولية في التعامل مع الجنس، يتفهم محاولة طالب عنده إرسال خطاب حب إلى فتاة بالمدرسة المجاورة، ويقامر بالمدرسة بأكملها في مسابقة خطرة لإنقاذ طالبه من الفصل.

في فيلم «اللعب مع العيال» رغم ترسيخ عرفة لماضي علام مع تسلط أبيه المعلم وأسرته، فإنه لا يمتلك عاطفة حاضرة في وصال تلاميذه، إنما تصير أسماؤهم وبنياتهم الجسدية المترهلة وجهلهم مادة لتخليق الكوميديا، فيصير علام متنمرًا أكثر منه معلمًا.

في فيلم بعنوان «اللعب مع العيال» يحضر الأطفال كظل للبطل، ككومبارس في الخلفية، ويستديم مأزق البطل كمعلم في صحراء قاحلة لا أكثر، تبدو شخصيات الأطفال واحدة من الأصغر للأكبر بلا تمايز، كتلة موحدة المعالم من الغباء والكسل.

يمنحنا الفيلم التحول الدرامي لبطله في مشهد تقليدي، يخاف فيه البطل من العوم حتى يشجعه تلاميذه، ثم يقدم البطل حكمته إلى تلاميذه في صورة عرض مسرحي شديد المباشرة، يرتدي فيه الأطفال أزياء الجنود على مر العصور، من أحمس حتى نصر أكتوبر.

 تبدو الحلة العسكرية عنوانًا على انتقال الطلبة من حالة الفوضى إلى النظام، لكنها تدل أكثر على انتقالهم من تماثل قديم في الكسل والجهل إلى تماثل جديد يظهرهم في صورة جماعية مبهجة، لكنها تطمس فردانيتهم بالكامل التي لم يحاول الفيلم استعراضها من الأساس.

لا يمتلك «اللعب مع العيال» الروح التقدمية الطازجة التي امتلكها «الناظر» في التعامل مع مأزق التعليم والطفولة.

رغم أنه فيلم يعتمد في كثير من مواقفه على كوميديا طفولية مثل بطل يفر من حيوان مفترس أو يغشى عليه من الخوف، مما يجعله موجهًا بشكل أكبر للأجيال الأصغر، إلا أنه يعجز عن خلق وصال ذكي مع تلك الأجيال. لذلك بينما عاش «الناظر» كأيقونة للأجيال التي رأته أطفالًا حتى بعدما صاروا كبارًا، يصعب أن ينال «اللعب مع العيال» الحضور الأيقوني نفسه، بل يبدو امتدادًا لأفلام محمد إمام التي يخدم فيها كل شيء حضور البطل وإلقائه للإفيه.

شرير مدرسي في حبكة هزلية

في سينما شريف عرفة لا يحضر الشر دومًا في صورة سلطة غاشمة، إنما في تجلياتها الأكثر حضورًا في اليومي والمعيش، مثل موظف بيروقراطي متصلب في مجمع التحرير، أو موظف مدرسي متسلط على تلاميذه.

عادل إمام في مشهد من فيلم «الإرهاب والكباب»

من اليمين، الممثلين: سليمان عيد وعلاء ولي الدين وحسن حسني، في مشهد من فيلم «الناظر»

سواء كانت الشخصية موظفًا بسيطًا في «الإرهاب والكباب» أو ثريًّا متوحشًا في أفلام مثل «المنسي»، أو حتى مجرمًا هزليًّا في «فول الصين العظيم»، تمتلك الشخصية الشريرة في سينما شريف عرفة أدوات ذكية على مستوى الكوميديا أو الدراما تخلق لها حضورًا موازيًا وتحديًا منعشًا للبطل.

يجسد باسم سمرة دور الشرير أو تاجر المخدرات أبو مخزوم في فيلم «اللعب مع العيال»، يصطدم الشرير مع المعلم الجديد الذي يعيد إحياء المدرسة وشغلها بالتلاميذ بينما يحتاجها الشرير كمخزن لتجارته المحظورة.

رغم أن هذا المأزق كافٍ لدعوة الشرير إلى الحبكة، خاصة مع التناقض الحاد بين معلم قاهري ضعيف الشخصية، وتاجر مخدرات بدوي في بيئة قاسية، تناقض ذكي كثيرًا ما مارس عرفة على هامشه موهبته في تأطير المهمش في إطار البطولة، إلا أن معظم مشاهد البطل والشرير اعتمدت على كوميديا الفارص الهزلية. أكثر أنواع الكوميديا سهولة ومباشرة وأصعبها قدرة على الإضحاك.

لا يكتفي السيناريو بتجريد الشرير من ممكناته الكوميدية والهزلية، إنما يثقله ببعد مدرسي ورمزي تقترب فيه المباشرة من مرتبة التكلف السمج، عندما يمتلك الشرير عداوة غير مبررة مع التاريخ وكراهية يشترط معها على المعلم ألا يدرسه للأطفال أبدًا أو يسمح لهم بأداء تحية العلم وغناء النشيد الوطني.

يبدو الشرير هنا مدرسيًّا، لا يظهر إلا لاستدعاء كادر جمعي يقف فيه الأطفال بأزياء متماثلة أسفل راية العلم للتأكيد على أهمية التعليم في مواجهة قوى الظلام، وهي نفسها دروس القراءة التي يتلقاها طفل بسيط في سنواته الابتدائية، ولا يحتاج لوسيط سينمائي يكرسها له في نفس الصورة المباشرة الخالية من أي إبداع.

مع تواضع الحبكة ببطلها وأدوارها المساعدة والأطفال يأتي الشرير كانعكاس أخير ومنطقي لحكاية تستعير ماضي حكايات سابقة أكثر نجاحًا، باستنساخ أكثر سطحية. فيقع الفيلم برمته في إخفاق جمالي لا ينجيه تأكيد المخرج المفرط على هواجسه السابقة.

ألحان تحتاج أكثر من عازف وحيد

في حوار له، يؤكد شريف عرفة أن المخرج الناجح يعتمد على نجاح من حوله، لذلك عندما يسأله المحاور عن إصراره على تأليف أفلامه الأخيرة، يؤكد أنه لجأ لذلك اضطرارًا، وأنه يفضل تحمل مسئولية الإخراج كاملة وتطوير الحبكة بالتعاون مع سيناريست قوي، لكنه لا يجد الورق المناسب، لذلك يضطر إلى صياغة أفكاره بنفسه.

يمتلك شريف عرفة هاجسًا أصيلًا ونبيلًا في قضايا مثل تسلط السلطة بكل صورها من السياسية إلى الأبوية، والتركيز على الطفولة والتعليم كنجاة أولية من فخ الوراثة وتكرار ذواتنا كامتداد لآبائنا وأجيالنا السابقة، ولكن مع غياب المؤلف الذكي الذي يجدد هذا الهاجس في قصص جديدة أكثر أصالة، يظهر التكرار كإخفاق جمالي لا ينقذه صدق الهاجس، لصانع سينما يعلم أفكاره جيدًا لكنه لا يمتلك مهارة نسجها وحده في ثوب الحكاية.

لا يبدو «اللعب مع العيال» إلا نسجًا جديدًا منفردًا لحكايات سابقة غزلت من نسج جماعي يصعب أن تجبره فردانية شريف عرفة وحده، لذلك تحول الهاجس إلى تكرار، واستُعيدت أفكار مهمة في أكثر قوالبها مدرسية وتكلفًا.

# سينما # فن # فنانين # السينما المصرية # فيلم اللعب مع العيال # شريف عرفة # محمد إمام

بين الحزن والانتظار: فيروزية المشرق ومشرقية فيروز
فيلم «أبو زعبل 89»: عن مصر التي نعرفها
فيلم «The Apprentice»: الحقيقة وراء دونالد ترامب

فن